فصل: المجلس الثاني في ذكر السموات وما فيهن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (190):

قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الألباب (190)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر هذا الملك العظيم وختم بشمول القدرة دل على ذلك بالتنبيه على التفكر فيه الموجب للتوحيد الذي هو المقصد الأعظم من هذه السورة الداعي إلى الإيمان الموجب للمفازة من العذاب، لأن المقصود الأعظم من إنزال القرآن تنوير القلوب بالمعرفة، وذلك لا يكون إلا بغاية التسليم، وذلك هو اتباع الملة الحنيفية، وهو متوقف على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فبدأ سبحانه وتعالى السورة بدلائل صدقه بإعجاز القرآن بكشفه- مع الإعجاز بنظمه على لسان النبي الأمي- للشبهات وبيانه للخفيات، وأظهر مكابرة أهل الكتاب، وفضحهم أتم فضيحة، فلما تم ذلك على أحسن وجه منظمًا ببدائع الحكم من الترغيب والترهيب شرع في بث أنوار المعرفة بنصب دلائلها القريبة وكشف أستارها العجيبة فقال: {إن في خلق السماوات والأرض} أي على كبرهما وما فيهما من المنافع، ونبه على التغير الدال على المغير بقوله: {واختلاف الليل والنهار} أي اختلافًا هو- كما ترون- على غاية الإحكام بكونه على منهاج قويم وسير لا يكون إلا بتقدير العزيز العليم {لآيات} أي على جميع ما جاءت به الرسل عن الخالق، وزاد الحث على التفكر والتهييج إليه والإلهاب من أجله بقوله: {لأولي الألباب} وذكر سبحانه وتعالى في أخت هذه الآية في سورة البقرة ثمانية أنواع من الأدلة واقتصر هنا على ثلاثة، لأن السالك يفتقر في ابتداء السلوك إلى كثرة الأدلة.
فإذا استنار قلت حاجته إلى ذلك، وكان الإكثار من الأدلة كالحجاب الشاغل له عن استغراق القلب في لجج المعرفة، واقتصر هنا من آثار الخلق على السماوية لأناه أقهر وأبهر والعجائب فيها أكثر، وانتقال القلب منها إلى عظمته سبحانه وتعالى وكبريائه أشد وأسرع، وختم تلك بما هو لأول السلوك: العقل، وختم هذه بلبه لأنها لمن تخلص من وساوس الشيطان وشوائب هواجس الوهم المانعة من الوصول إلى حق اليقين بل علم اليقين. اهـ.

.اللغة:

{الألباب} العقول.
{باطلا} عبثا بدون حكمة.
{سبحانك} تنزية لله عن السوء.
{أخزيته} أذللته وأهنته.
{كفر عنا} استر وامح.
{الأبرار} جمع بر أو بار وهم المستمسكون بالشريعة.
{فاستجاب} بمعنى أجاب.
{نزلا} النزل: ما يهيأ للنزيل وهو الضيف من أنواع الإكرام.
{رابطوا} المرابطة: ترصد العدو في الثغور. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

هذا غرض أُنف بالنسبة لما تتابع من أغراض السورة، انتُقل به من المقدّمات والمقصد والمتخلِّلات بالمناسبات، إلى غرض جديد هو الاعتبار بخلق العوالم وأعراضها والتنويه بالذين يعتبرون بما فيها من آيات.
ومِثْل هذا الانتقال يكون إيذانًا بانتهاء الكلام على أغراض السورة، على تفنّنها، فقد كان التنقّل فيها من الغرض إلى مشاكله وقد وقع الانتقال الآن إلى غرض عامّ: وهو الاعتبار بخلق السماوات والأرض وحال المؤمنين في الاتّعاظ بذلك، وهذا النحو في الانتقال يعرض للخطيب ونحوه من أغراضه عقب إيفائها حقّها إلى غرض آخر إيذانًا بأنه أشرف على الانتهاء، وشأن القرآن أن يختم بالموعظة لأنّها أهمّ أغراض الرسالة، كما وقع في ختام سورة البقرة. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الأحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والإلهية والكبرياء والجلال، فذكر هذه الآية.
قال ابن عمر: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي، ثم قال لي: يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي، فقلت: يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب مرادك قد أذنت لك.
فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء، ثم قام يصلي، فقرأ من القرآن وجعل يبكي، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي، فقال له: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا»، ثم قال: «ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض}» ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» وروي: ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها.
وعن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر إلى السماء ويقول: إن في خلق السموات والأرض.
وحكى أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة.
فعبدها فتى من فتيانهم فما أظلته السحابة، فقالت له أمه: لعل فرطة صدرت منك في مدتك، قال: ما أذكر، قالت: لعلك نظرة مرة إلى السماء ولم تعتبر قال نعم، قالت: فما أتيت إلا من ذلك.
واعلم أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة البقرة، وذكرها هنا أيضا، وختم هذه الآية في سورة البقرة بقوله: {لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] وختمها هاهنا بقوله: {لأيات لأُوْلِى الألباب} وذكر في سورة البقرة مع هذه الدلائل الثلاثة خمسة أنواع أخرى، حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل، وهاهنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة: وهي السموات والأرض، والليل والنهار، فهذه أسئلة ثلاثة:
السؤال الأول: ما الفائدة في إعادة الآية الواحدة باللفظ الواحد في سورتين؟
والسؤال الثاني: لم اكتفى هاهنا باعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف الخمسة الباقية؟
والسؤال الثالث: لم قال هناك: {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] وقال هاهنا: {لأُوْلِى الألباب}.
فأقول والله أعلم بأسرار كتابه: إن سويداء البصيرة تجري مجرى سواد البصر فكما أن سواد البصر لا يقدر أن يستقصي في النظر إلى شيئين، بل إذا حدق بصره نحو شيء تعذر عليه في تلك الحالة تحديق البصر نحو شيء آخر، فكذلك هاهنا إذا حدق الإنسان حدقة عقله نحو ملاحظة معقول امتنع عليه في تلك الحالة تحديق حدقة العقل نحو معقول آخر، فعلى هذا كلما كان اشتغال العقل بالالتفات إلى المعقولات المختلفة أكثر، كان حرمانه عن الاستقصاء في تلك التعقلات والادراكات أكثر، فعلى هذا: السالك إلى الله لابد له في أول الأمر من تكثير الدلائل، فإذا استنار القلب بنور معرفة الله صار اشتغاله بتلك الدلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في معرفة الله، فالسالك في أول أمره كان طالبًا لتكثير الدلائل، فعند وقوع هذا النور في القلب يصير طالبًا لتقليل الدلائل، حتى إذا زالت الظلمة المتولدة من اشتغال القلب بغير الله كمل فيه تجلى أنوار معرفة الله، وإليه الإشارة بقوله: {فاخلع نَعْلَيْكَ أنك بالواد المقدس طُوًى} [طه: 12] والنعلان هما المقدمتان اللتان بهما يتوصل العقل إلى المعرفة فلما وصل إلى المعرفة أمر بخلعهما، وقيل له: أنك تريد أن تضع قدميك في وادي قدس الوحدانية فاترك الاشتغال بالدلائل.
إذا عرفت هذه القاعدة، فذكر في سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل، ثم أعاد في هذه السورة ثلاثة أنواع منها، تنبيها على أن العارف بعد صيرورته عارفا لابد له من تقليل الالتفات إلى الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول، فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية، التنبيه على ما ذكرناه، ثم أنه تعالى استقصى في هذه الآية الدلائل السماوية وحذف الدلائل الخمسة الباقية، التي هي الدلائل الأرضية، وذلك لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر، والعجائب فيها أكثر، وانتقال القلب منها إلى عظمة الله وكبريائه أشد، ثم ختم تلك الآية بقوله: {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وختم هذه الآية بقوله: {لأُوْلِى الألباب} لأن العقل له ظاهر وله لب، ففي أول الأمر يكون عقلا، وفي كمال الحال يكون لبا، وهذا أيضا يقوي ما ذكرناه، فهذا ما خطر بالبال، والله أعلم بأسرار كلامه العظيم الكريم الحكيم. اهـ.
قال رحمه الله:
قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} تقدّم معنى هذه الآية في البقرة في غير موضع.
فختم تعالى هذه السورة بالأمر بالنظر والاستدلال في آياته؛ إذ لا تصدر إلا عن حَيّ قيّوم قدير قُدّوس سلامٍ غنيٍّ عن العالمين؛ حتى يكون إيمانُهم مستندًا إلى اليقين لا إلى التقليد.
{لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} الذين يستعملون عقولهم في تأمّل الدلائل.
ورُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم قام يُصلي، فأتاه بِلالٌ يُؤْذِنُه بالصلاة، فرآه يَبْكي فقال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر! فقال: «يا بلالُ، أفلا أكون عبدًا شكورًا ولقد أنزل الله عليّ الليلة آية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب}» ثم قال: «وَيْلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها».
قال العلماء: يستحبّ لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر الآيات اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما وسيأتي؛ ثم يصلّي ما كُتب له، فيجمع بين التفكّر والعمل، وهو أفضل العمل على ما يأتي بيانه في هذه الآية بعد هذا.
ورُوي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة، خرّجه أبو نصر الوائلي السِّجِسْتانِيّ الحافظ في كتاب الإبانة من حديث سليمان بن موسى عن مظاهر بن أسلم المخزوميّ عن المَقْبُريّ عن أبي هريرة.
وقد تقدّم أوّل السورة عن عثمان قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كُتب له قيام ليلة. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الألباب}.
الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: تَعَاقُبُ الْأَعْرَاضِ الْمُتَضَادَّةِ عَلَيْهَا مَعَ اسْتِحَالَةِ وُجُودِهَا عَارِيَّةً مِنْهَا، وَالْأَعْرَاضُ مُحْدَثَةٌ، وَمَا لَمْ يَسْبِقْ الْمُحْدَثَ فَهُوَ مُحْدَثٌ.
وَقَدْ دَلَّتْ أيضا عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْأَجْسَامِ لَا يُشْبِهُهَا؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يُشْبِهُ فِعْلَهُ.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ؛ إذْ كَانَ خَالِقُهَا وَخَالِقُ الْأَعْرَاضِ الْمُضَمَّنَةِ بِهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَضْدَادِهَا؛ إذْ مَا لَيْسَ بِقَادِرٍ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الْفِعْلُ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهَا قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ وُجُودِهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِصَانِعٍ قَدِيمٍ، لَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَاجَ الْفَاعِلُ إلَى فَاعِلٍ آخَرَ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَانِعَهَا عَالِمٌ مِنْ حَيْثُ اسْتَحَالَ وُجُودُ الْفِعْلِ الْمُتْقَنِ الْمُحْكَمِ إلَّا مِنْ عَالِمٍ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى أنه حَكِيمٌ عَدْلٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ عَالِمٌ بِقُبْحِهِ فَلَا تَكُونُ أَفْعَالُهُ إلَّا عَدْلًا وَصَوَابًا.
وَيَدُلُّ عَلَى أنه لَا يُشْبِهُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَشْبَهَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يُشْبِهَهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا، فَإِنْ أَشْبَهَهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ مِثْلُهَا، وَإِنْ أَشْبَهَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَوَاجِبٌ أن يكون مُحْدَثًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُشَبَّهِينَ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ اشْتَبَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي حُكْمِ الْحُدُوثِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ.
وَيَدُلُّ وُقُوفُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ أَنَّ مُمْسِكَهَا لَا يُشْبِهُهَا، لِاسْتِحَالَةِ وُقُوفِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ مِنْ جِسْمٍ مِثْلِهَا.
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُضَمَّنَةِ بِهَا.
وَدَلَالَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى اللَّهِ تعالى أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُحْدَثَانِ لِوُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إيجَادِهَا وَلَا عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهَا، وَقَدْ اقْتَضَيَا مُحْدَثًا مِنْ حَيْثُ كَانَا مُحْدَثَيْنِ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ حَادِثٍ لَا مُحْدِثَ لَهُ، فَوَجَبَ أن يكون مُحْدِثُهُمَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مُشْبِهٌ لِلْأَجْسَامِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إحْدَاثِ مِثْلِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُشْبِهَ لِلْجِسْمِ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْحُدُوثِ، فَلَوْ كَانَ فَاعِلُهُمَا حَادِثًا لَاحْتَاجَ إلَى مُحْدِثٍ، ثُمَّ كَذَلِكَ يَحْتَاجُ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَلابد مِنْ إثْبَاتِ صَانِعٍ قَدِيمٍ لَا يُشْبِهُ الْأَجْسَامَ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.مواعظ:

.قال ابن الجوزي:

.المجلس الثاني في ذكر السموات وما فيهن:

الحمد لله الذي رفع السموات مزينة بزينة النجوم ومثبت الأرض بجبال في أقاصي التخوم عالم الأشياء بعلم واحد وإن تعدد المعلوم ومقدر المحبوب والمكروه والمحمود والمذموم لا ينفع مع منعه سعي فكم مجتهد محروم ولا يضر مع إعطائه عجز فكم عاجز وافر المقسوم اطلع على بواطن الأسرار وعلم خفايا المكتوم وسمع صوت المريض المدنف المحروم وأبصر وقع القطر في سحاب مركوم {وما ننزله إلا بقدر معلوم} جل أن تحيط به الأفكار أو تتخيله الوهوم وتكلم فكلامه مسموع مقروء مرقوم وقضى فقضاؤه إذا شاء إنفاذه محتوم وبتقديره معصية العاصي وعصمة المعصوم {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} قضى على الأحياء بالممات فإذا بلغت الحلقوم فات المقصود المرام وعز المطلوب المروم ونقل الآدمي عن جملة الوجود إلى حيز المعدوم وبقي أسير أرضه إلى يوم عرضه والقدوم فإذا حضر حسابه نشر كتابه المختوم وجوزي على ما حواه المكتوب وجمعه المرقوم {وعنت الوجوه للحي القيوم} أحمده حمدا يتصل ويدوم وأشهد أنه خالق الأعيان والرسوم وأصلي على رسوله محمد صلاة تبلغه على المروم وعلى صاحبه أبي بكر الصديق على السائل والمحروم وعلى عمر المنتصف بين الظالم والمظلوم وعلى عثمان المتهجد إذا رقد النؤوم وعلى علي الذي حاز الشرف والعلوم وعلى عمه العباس سيد الأعمام على الخصوص والعموم قال الله تعالى: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج}.
خلق الله عز وجل الماء فثار منه دخان فبنى منه السموات قال قال أبو القاسم ابن أبي برة السماء بيضاء لكن من بعدها ترى خضراء وقال الربيع بن أنس السموات أولها موج مكفوف والثانية من صخرة والثالثة من حديد والرابعة من صفر أو نحاس والخامسة من فضة والسادسة من ذهب والسابعة من ياقوتة حمراء وقال إياس بن معاوية السماء على الأرض مثل القبة وقال أبو الحسين ابن المنادي لا اختلاف بين العلماء أن السماء على مثل الكرة فإنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدور الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين أحدهما في ناحية الشمال والآخر في ناحية الجنوب وكرة الأرض مبنية في وسط كرة السماء كالنقطة من الدائرة وفي حديث العباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هل تدرون كم بين السماء والأرض قالوا الله ورسوله أعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكنف كل سماء خمسمائة سنة وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض قال العلماء وكذلك الأرضون السبع في كثافتها وبعد ما بين الواحدة والأخرى فذلك مسيرة أربع عشرة ألف سنة سوى ما تحت الأرض من الظلمة والنور وما فوق السموات من الحجب والظلمة إلى العرش وهذا على قدر مسير الآدمي الضعيف فأما الملك فإنه يخرق ذلك في ساعة واحدة وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل لما أبرم خلقه فلم يبق غير آدم خلق شمسين من نور عرشه ثم أرسل جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات فمحا عنه الضوء وبقي فيه النور وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الشمس تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز وجل فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها وأصغر النجوم بقدر الدنيا مرات وفي السماء السابعة البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه وبعد السماء السابعة سدرة المنتهى إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها وبعد هذا الكرسي قال صلى الله عليه وسلم ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة ثم العرش وهو ياقوته حمراء فأما الملائكة ففي أفراد مسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقت الملائكة من نور ومن أعظم الملائكة خلقا حملة العرش وعددهم اليوم أربعة أحدهم على صورة البشر قد وكل بالدعاء لنسل الآدمي والآخر على صورة النسر قد وكل بالدعاء لأجناس الطير والآخر على صورة الثور قد وكل بالدعاء للنسل البهيمي والآخر على صورة السبع قد وكل بالدعاء لأجناس السباع فإذا جاءت القيامة زيد فيهم أربعة أخبرنا عبد الأول بن عيسى عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة أخبرنا عبد الأول بسنده عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه مثنية تحت العرش وهو يقول سبحانك ما أعظمك ربنا قال فيرد عليه ما يعلم ذلك الذي يحلف بي كاذبا وقال عبد الله بن سلام لما خلق الله عز وجل الملائكة واستووا على أقدامهم رفعوا رؤوسهم إلى السماء فقالوا ربنا مع من أنت قال مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه فأما أعمال الملائكة فجمهورهم مشغول بالتعبد كما قال الله سبحانه وتعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} أخبرنا ابن الحصين بسنده عن مؤرق عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد ومن الملائكة موكل بعمل فمنهم حملة العرش قد وكلوا بحمله وجبريل صاحب الوحي والغلظة فهو ينزل بالوحي ويتولى إهلاك المكذبين وميكائيل صاحب الرزق والرحمة وإسرافيل صاحب اللوح والصور وعزرائيل قابض الأرواح وله أعوان وهؤلاء الأربعة هم المقسمات أمرا ومنهم كتاب على بني آدم وهم المعقبات ملكان في الليل وملكان في النهار.